Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

في لبنان، هناك سياسة اقتصادية ونقدية نشأت بعد الحرب أدت إلى ما أدت إليه من استدانة غير قابلة للاستمرار، ودوْلرة شبه مطلقة للاقتصاد. وهنا يجب إعادة التأكيد أن اقتصادنا غير منتج. الحل الوحيد لإكمال رحلة الاستدانة ودفع الفوائد ودعم الليرة

سامر غدار

فلسفة اللافلسفة واقتصاد 'البونزي سكيم'""

"

حادثة حصلت معي في تسعينات القرن الماضي تلخص أزمتنا النقدية والمالية الحالية، والتي تقوم بشقيها الاقتصادي والمصرفي على فلسفة سخيفة بمعانيها ومدمرة بمفاعيلها. هنا لا بد من تحديد بعض المفاهيم وإعطاء الأمثلة لشرح عمق هذه الازمة بشقيها الاقتصادي - السياسي، والنقدي. وأقصد بالاقتصاد السياسي؛ الفلسفة الاقتصادية والاستراتجية الوطنية التي تحدد الرؤية لما نود الوصول إليه من تنمية اقتصادية تقوم على مفهم الأمن الاجتماعي والأمن الغذائي والتعليم... الخ.

القصة بدأت في صف لاستاذ مادة الاقتصاد النقدي في الجامعة. خاطبنا الاستاذ متبجحاً سنة 1995 أن الدين السيادي لأي بلد لا يختلف إن كان بالعملة الصعبة، hard currency، أو العملة الوطنية. وأن الدولة اللبنانية يجب أن تستدين بالدولار واليورو والين. للوهلة الأولى، وبمعرفتنا المحدودة أخذنا ما قدمه الأستاذ كأنه علم ومعرفة واضحة المعالم وأن "حضرته" كان يقوم بتجربة فيزيائية لا يمكن ضحضها بالأرقام. المضحك المبكي أننا اكتشفنا أن "الأخ" كان من الحاشية التي تحاول الدخول إلى عالم الاستشاريين الاقتصاديين لرئيس الوزراء وقتذاك رفيق الحريري. سوف نشرح في ما يلي كيف أن اقتراح كهذا ليس خطأ بسيطاً بل أساسياً، Principal Mistake، وله تبعات اقتصادية قاتلة نشهد بعض مظاهرها الآن في الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر فيها لبنان. 

تمثل العملة الوطنية السيادة النقدية لأي دولة. الليرة اللبنانية تصدر عن الدولة اللبنانية، ومصرف لبنان له الصلاحية القانونية الوحيدة بأصدار النقد الورقي والمعدني والرقمي (في حالة الاحتياط النقدي). تنطبق على العملات الأجنبية، وخاصة العملات المعتمدة كاحتياط نقدي (Reserve Currency) نفس الشروط لناحية الإصدار. فالمصرف المركزي اللبناني لا يملك إمكانية إصدار الدولار الأميركي، أو اليورو، بل هو أمر يعود لمصرف الاحتياطي للدولار والمصرف المركزي الأوروبي لليورو. بالعودة إلى مقولة الاستاذ الجامعي "الفذ"؛ إن الاستدانة "هي هي" سواء كانت بالليرة اللبنانية أو الدولار الأميركي. للأسف إن أمثال هذا الاستاذ كان من حاشية الكثير من السياسين وأن هذا التسخيف جعل قانون إقرار الدين بالعملة الاجنبية (المقرّ في المجلس النيابي اللبناني سنة 1997) يمر مرور الكرام. ولولا بعض الاعتراضات لعدد من النواب لكان القانون قد أقرّ بدقيقة واحدة وليس ببضعة دقائق.

إن التبعات التي نشأت عن هذا القانون تلخص أزمة لبنان الحالية. كيف لبلد أن يستدين بالعملة الصعبة وهي بلد غير منتج، شحيح التصدير، ويتكل على التحويلات النقدية لأبنائه المغتربين. وقتذاك أعطى وزير المالية تعليلاً يفيد بأن الفائدة على الدولار أقل من الفائدة على الليرة؛ هكذا يستطيع لبنان أن يحقق خفضاً في عجز ميزانيته. المضحك المبكي أن تستدين الدولة لخفض الفائدة وهي غير قادرة على دفع أصل القرض. 

يقودنا هذا إلى سؤال مركزي: هل على الدولة الاستدانة؟. وأي كان الجواب، ما هي فلسفة الاستدانة ومفاعيلها؟. بعد الإجابة على هذه الاسئلة تُطرح الاسئلة التطبيقية الأخرى: على أي مدى زمني تستدين الدولة وبأي حجم؟.

طبعاً، وللأسف، لم تطرح الدولة اللبنانية أي سؤال ولم تضع أي استراتجية. تستدين الدولة بعملتها الوطنية لأنها قادرة على طبع هذه العملة بالقدر الذي تريد، وفي حالة الأزمات الاقصادية أو زيادة التضخم تنخفض القيمة الحقيقية لهذا الدين. على سبيل المثال، كانت الأزمة الأوروبية عام 2011 تتمحور حول حجم الدين العام للدول الأوروبية الجنوبية وبالأخص اليونانية. لقد فاق حجم الدين العام اليوناني قدرة اليونان على السداد، كما هو وضع لبنان حالياً. مشكلة اليونان وقتها كانت في أن الدين باليورو، وجميعنا يذكر حجم الجدل السياسي آنذاك، إن كانت اليونان ستخرج من الاتحاد الأوروبي وتعيد إصدار الدرخما اليونانية. ومدى تأثير ذلك على تدهور سعر صرف عملتها الوطنية أمام اليورو وانخفاض الدين العام. لكن المشكلة الأساسية كانت أن الدين مسعّر باليورو ولا مفر من الدفع بالعملة الصعبة. 

في لبنان، هناك سياسة اقتصادية ونقدية نشأت بعد الحرب أدت إلى ما أدت إليه من استدانة غير قابلة للاستمرار، ودوْلرة شبه مطلقة للاقتصاد. وهنا يجب إعادة التأكيد أن اقتصادنا غير منتج. الحل الوحيد لإكمال رحلة الاستدانة ودفع الفوائد ودعم الليرة (عبر رفع قيمتها الشرائية الوهمية) كان عبر فائض ميزان المدفوعات من تحويلات غير المقيمين – وطبعاً، كان هذا هو الرأي السائد للطبقة الحاكمة والمتمثلة بحاكمية مصرف لبنان. وهنا يجب التذكير أن هذه التحويلات مرتبطة مباشرة بالدورة الاقتصادية العالمية وأسعار السلع، وبشكل خاص بالتحويلات من الدول الأفريقية، وأميركا اللاتينية، والخليج العربي. المفارقة أن كل مؤتمرات الدعم الاقتصادي اللبناني من باريس 1 إلى 2 إلى 3، وأخيراً سيدر، حصلت بعد تدهور أسعار النفط والسلع عالمياً. يعني هذا، أن فجوة تحويلات المغتربين لم تعد قادرة على سداد الفجوة التي أنتجتها هكذا سياسات.

أسوأ تعليل للازمة الاقتصادية الحالية هو في إيحالها لسلسلة الرتب والرواتب التي أقرها المجلس النيابي للقطاع العام وموضوع الكهرباء. إن تكرار واجترار هكذا مقولات يهدف، عن سابق إصرار، إلى خلق رأي عام ضد المُلكية العامة لشركة الكهرباء، ويرمي طبعاً إلى جعل الموظف العام "البعبع الذي يسبب الخسائر للدولة". لا أحد، وهنا قد أجزم لولا شربل نحاس، يذكر أن عجز الكهرباء ليس عجزاً بل دعم مباشر تقدمه الدولة للمستهلكين لا لشركة كهرباء لبنان.

بالخلاصة لقد تم بناء اقتصاد ريعي باستدانة غير قابلة على الاستدامة، وبدعم وهمي لليرة اللبنانية أدت إلى ما أدت إليه وآخرها طبعاً اكتشاف اللبنانيين أن الدولة ليست فقط مفلسة، بل هي استعملت دولاراتهم لدعم وهم الليرة الثابة أمام الدولار، التي مثّلت يوماً ما السيادة الوطنية. هذه "الخزعبلات" التي ينطبق عليها مقولة "البونزي سكيم" ليست سياسة اقتصادية، لا اليوم، ولا بالأمس، ولا غداً. إن أي حل للازمة الاقصادية اللبنانية لا يقوم على إعادة إنتاج سياسة اقتصادية جديدة مبنية على اقتصاد سياسي سليم لن تكون غير تأجيل وإعادة انتاج أزمات مستقبلية أشد سوءاً مما نحنا فيه اليوم.

 

 

"

كاتب وباحث اقتصادي لبناني